وديع سعادة - الطريق



النص التالي هو عبارة عن مقتطفات من نص نثري للشاعر والكاتب الجميل وديع سعادة، بعنوان "الطريق".
جمال نصوص سعادة، باعتقادي، يكمن في حث القارئ على الشفافية، التي كلما ازدادت فيه، زاد تذوّق النص الأدبي لديه، وخلق علاقة شخصية معه بناءً على تجارب خاصة، لأن نصوصه عادة ما تتمحور حول مشاهد يمكن للكثيرين أن يمسّوها، خاصة ولو تركوا خيالهم في الباحة بلا رقابة. 

النص : 

...وحين نأى هدأت الريح.
كان في العاصفة. مقتلَعاً مخلَّعاً مشلَّعاً. رأسه في مكان، يده في مكان، قلبه في مكان، وعبثاً حاول جمع أعضائه.
لم يكن له اسم. سمَّاه بعضهم "منحرفاً" لأن لا طريق له، وسمَّاه بعضهم "هابّاً" لأن لا مقعد له، وسمَّاه بعضهم "غباراً" لأنَّ كلَّ شظيَّة منه في مكان. كانت له أسماء كثيرة استحال جمعها في اسم. كانت له أسماء كثيرة، ولم يكن له اسم.
الذي بلا اسم كان في العاصفة وكانت ترتطم به طيور ميْتة تحملها الرياح وغصونٌ متكسّرة وجمعٌ مرتجف لا يعرفه.
سمع أصواتاً تصرخ: "أيها العالَم ! أيها العالَم !".
ولمستْه جموع، لمسه العالَم، ولم تخرج منه أيَّة قوَّة.
لم يكن هو السيّد، لم يكن هو المصطفى. كان المرتجفَ مثلهم في الريح. وبالكاد خرج منه صوت: " ما جئتُ لأُكمل ولا جئتُ لأنقض، بل أنا النقصان والأنقاض والنقيض". وضيَّع صوته، ولم يبحث عنه، ولا بحث عنه أحد.
الذي لم يكن سيّداً، وبلا اسم ولا صوت، كان يتحدَّث فقط في قلبه.
قال أنا بلا اسم كي أكون كلَّ الأسماء، وبأعضاء متناثرة في كل مكان كي تكون كلُّ الأمكنة مكاني. إن نادى أحدٌ أحداً، أينما كان، أليس عليَّ أنا أيضاً أن أجيب؟ وإن كبا كائن في أي مكان، ألا يجب أن يكون مني شيء هناك كي أحنو عليه؟
قال أنا الكائن هناك، وأنا المنادي هناك، وأنا المجيب والحاني. والغصن المنكسر أمامي كان ضلعاً مني والطير الميْت المرتطم بي كان بعض حياتي. كل الغصون في الشجر هي ضلوعي أيضاً، والطيور على الأرض وفي الجوّ إخوتي. والأحجار، هنا وهناك، عظامٌ لي لم يكتمل نموُّها، فهل أتنكَّر لعظامي؟
هبَّ المنحرف حاملاً معه الشجر والطيور والعظام. لا إلى أرض، لا إلى مكان. هبَّ إلى الشساعة، إلى كل الأمكنة، محمولاً بالعاصفة، وحاملاً السكينة: سكينة الشجر إذ يمتلئ بالتراب. سكينة الطير إذ يمتلئ بالفضاء. سكينة العظْم إذ يفرغ من الجسد.
هبَّ عاصفاً، لكن أينما عصفت الريح به كانت السكينة في قلبه.
هبَّ "الهابُّ" واصطدمت به جموع، ولم يلتفت إليه أحد. لم يسأله أحد سؤالاً، لا عن المحبة، لا عن الزواج، لا عن الأولاد...لم يكن المصطفى ولا السيّد، ولا سفينة له ولا هيكل ولا تلاميذ. ولو سألوه ما كان سيجيب. لم يكن يعرف جواباً. كان يعرف فقط أنَّ الهبوب يجرف كلَّ شيء، الأسئلةَ والأجوبة والكلام، ويصمت.
كان طفلاً في حقل حين هبَّت عليه أوَّل ريح، وسقطتْ ورقة من شجرة أمامه. انتظرَ، علَّ الريح تعود، وتعيد الورقة إلى الشجرة.
ثم رأى الشجرة كلَّها تهوي.
ثم لم يعد يرى أيَّ حقل.
وما بقي للبستانيّ أن يفعل غير جمْع الأوراق وكسور الشجر. ما بقي للبستانيّ أن يفعل غير إحراق بستانه.
وتيقَّن، حينذاك، أنَّ ما يراه في البعيد، أنَّ ما يسعى إليه، هو الدخان.
بعضهم سمَّاه "المنحرف". بعضهم سمَّاه "الغبار". وبعضهم سمَّاه "الماحي"...
محا "الماحي" قدمه ومضى بلا قدم.
لم تكن هناك طريق. استنسخَ من حذائه طريقاً.
لم يكن هناك شجر. استنسخَ من ضلوعه جذوعاً وأغصاناً. ومن أنفاسه استنسخ ريحاً عائدة، كي تعيد الورقة إلى الشجرة.
حين رأى الريح تُسقط الورقة أمامه انتظر وبكى، لأنَّ الريح لم تَعُد ولم تُعِد الورقة إلى غصنها... ويحزن الآن لأنَّ دموعه لم تكن حينذاك مطراً، فلعلَّ الورقة كانت شربت قبل أن تموت.
صُبَّ دمعاً في كأسك صُبَّ مطراً على ورقٍ ميْت.
صُبَّ شجراً، من ضلوعك.
استنسخَ طريقاً من حذائه.
وطوى الطريق، طيَّة طيَّة، ووضعها في جيبه.
وصار، عوض أن يمشي على الطريق، يمشي في ثنايا ردائه.
لم تكن هناك طريق، ولا حذاء له ولا ثوب. لكن قال ذلك كي يكون له مشي.
لم يكن له شيء. كان له القول فقط. كان له القول، والمشي في القول.
وقطعَ الدروب كلَّها مشياً على الكلام.
لا تلفظِ الكلمة الأخيرة، لا تقلْ الكلمة التي في آخر الطريق. قد يسمعها أحد في أوَّل الطريق ولا يعود يمشي.
وإذ تطوي الطريق وتضعها في جيبك، تيقَّنْ أنْ لا أحد ماشٍ عليها. هكذا يخفُّ حمْلك.
وهكذا لا تزعج الماشين.
وإنْ أردتَ رفيقاً، فأيُّ رفيق أعزُّ من وحدتك؟
امشِ على الكلام. امشِ على اللهاث الذي يخرج من فمك.
وسترى في لهاثك طريقاً، وشجراً أيضاً.
امشِ في ثنايا ردائك. امشِ على الطريق المطويَّة في جيبك.
بين لهاثك وثوبك طريق، ويمكنك أن تمشي عليها العمر كلَّه.

للاطلاع على النص الكامل: www.jehat.com/Jehaat/ar/JehatAlkalb/7-9-11.htm


Comments

Popular posts from this blog

الشاعرة ليلى عيد حين جاء الحب

جبران أعطني الناي و غني