قصيدة جمال العابر - وديع سعادة
(العابرون سريعًا جميلون . لَا يَتْرُكُونَ ثقلَ ظلّ . رُبَّمَا غبارًا قليلاً ، سُرْعَانَ مَا يَخْتَفِي .
الْأَكْثَر جمالاً بَيْنَنَا ، المتخلّي عَنْ حُضُوره . التَّارِك فسحةً نَظِيفَة بشغور مَقْعَدَه . جمالاً فِي الْهَوَاءِ بِغِيَاب صَوْتَه . صفاءً فِي التُّرَابِ بِمِسَاحَتِه غَيْر الْمَزْرُوعَة . الْأَكْثَر جمالاً بَيْنَنَا : الْغَائِب .
قاطعُ الْمَكَان وَقَاطِع الْوَقْت بخفَّةٍ لَا تُتْرَكُ لِلْمَكَان أَن يسبيه وَلَا لِلْوَقْتِ أَنْ يذرّيه . مُذَرٍّ نَفْسِهِ فِي الْهُبُوبِ السَّرِيع غَيْرُ تَارِكٍ تبنًا لبيدره وَلَا قمحًا لحقل سِوَاه . المنسحب مِنْ شَرْطِ الْمَشْي لِلْوُصُول . المنسحب مِنْ الْوُصُولِ .
الْعَابِر سريعًا كملاكٍ مُهَاجِر . غَيْرُ تَارِكٍ إقَامَة قَدْ تَكُونُ مكانًا لخطيئة . غَيْر مُقْتَرِف خَطِيئَة ، غَيْر مُقْتَرِف إقَامَة .
سريعًا تَحْت شَمْس لَا تمسُّه ، تَحْت مَطَر لَا يبلّله ، فَوْق تُرَابٍ لَا يَبْقَى مِنْهُ آثَرَ عَلَيْهِ . سريعًا بِلَا أَثَرٌ وَلَا إرْثَ وَلَا مِيرَاثَ .
لَم يُقم كفايةً كَي يتعلَّم لُغَة . لَم يُقم كَي يتشرَّب عَادَات . لَا لُغَةً لَهُ وَلَا عَادَاتٍ وَلَا مُعَلَّمَيْن وَلَا تلاميذ . عابرٌ فَوْق اللُّغَة ، فَوْق الْعَادَات ، فَوْق الْمَرَاتِب وَالْأَسْمَاء وَالِاقْتِدَاء .
بِلَا اسْمٍ ، فَوْق النِّدَاء وَالْمُنَادَاة .
وَفَوْق الإيماءات ، إلَّا إيمَاءَه الْعُبُور .
وَبِلَا صَوْت ، لِأَنّ الصَّوْت ثقلٌ فِي الْهَوَاءِ .
لِأَنّ الصَّوْت قَد يَرْتَطِم بِآخَر . قَد يُسْحَق صوتًا آخَرَ فِي الْفَضَاءِ . قَد يُزْعِج النَّسَمَات .
وَبِلَا رَغْبَة . لِأَنَّ الرَّغْبَةَ إقَامَة ، ثَبَات .
العابرون سريعًا جميلون . لَا يُقِيمُونَ فِي مَكَان كَي يَتْرُكُوا فِيهِ بَشَاعَةٌ . لَا يَبْقَوْنَ وقتًا يَكْفِي لِتَرْك بُقْعَةٍ فِي ذَاكِرَة الْمُقِيمِين .
الَّذِين أَقَامُوا طويلاً مَعَنَا تَرَكُوا بقعًا عَلَى قُمَاش ذاكرتنا لَا نَعْرِفُ كَيْف نمحوها .
بقعٌ مُؤْلِمَة ، أَيْنَمَا كَانَ عَلَى الْمَقَاعِدِ ، بِحَيْثُ لَمْ يَعُدْ يُمْكِنُنَا الْجُلُوس .
الْمُقِيمُون طويلاً يسلبون مقاعدنا . يحوّلون أَثَاث بُيُوتِنَا إلَى قِطعٍ مِنْهُم . بِحَيْث نَجْلِس ، إذَا جَلَسْنَا ، عَلَى ضلوعهم ، عَلَى عِظَامَهُم .
يُسْحَق الْمُقِيمُون الْمُقِيمِين . أَمَّا العابرون فَلَا يسحقون أحدًا وَلَا أَحَدٌ يسحقهم . لَا يطأون عَلَى كائِنات وَلَا يُثقلون خطوًا عَلَى أَرْضٍ . حَتَّى الْهَوَاءِ لَا يلمحهم غَيْر لَحْظَة .
بِلَا قَلِق وَلَا نَدِمَ وَلَا آلِهَةٌ وَلَا اتِّبَاع . إيمانٌ وَاحِد لَهُم : الْعُبُور .
المتخلّون عَنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَوْطَان وَالْآبَاء وَالْبَنِين . كاسرو الْقَيْد . مخرّبو المشنقة الْمَصْنُوعَةِ مِنْ حَدِيدٍ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالِانْتِمَاء .
أَنَّهُم يَتَسَاقَطُون ، الواحِدُ تِلْوَ الآخَرِ ، المتشبثون بِالْإِقَامَة . يَتَسَاقَطُون بأوطانهم الَّتِي صَارَتْ وهمًا . بانتماءاتهم الَّتِي صَارَتْ كذبًا . بأبوَّتهم الَّتِي صَارَتْ عبئًا . بايماناتهم الَّتِي تَقْتُلَنَا ، وتقتلهم ، وَتُقْتَل الْحَيَاة .
العابرون لَا ضَحَايَا لَهُم . هَلْ لِذَلِكَ بَات عَلَيْنَا ، كَي نمجّد الْحَيَاة ، أَن نمجّد عُبورُهَا بِسُرْعَة ، أَن نمجّد الانتحار ؟
بخفَّةِ خَفْقَة الطَّيْر وَانْفِتَاح النَّسَمَة لِلْجُنَاح . بِخُفِّه انْفِتَاح هَوَاء الْعُبُور واندمال هَوَاء الِانْطِلَاق .
عابرون سريعًا ، كلحظة اِنْقِصاف .
لَهُمْ مِنْ الْعُصْفُورِ صَوْت ، مِن الْغُصْن نَظَرِه ، مِن الزَّهْرَة شميمٌ خَاطِف .
عصافيرهم لِلْغِنَاء وَالرَّحِيل ، لَا للسجن فِي أقْفَاصِ أَو تَأْبِيدِهَا محنَّطةً فِي واجِهات . طيورهم الرُّوح الْمُسَافَرَة ، لَا الرِّيش الْمُقِيم .
وزهورهم العَبِق الشَّارِد خَارِجَ الْإِنَاءِ .
سِوَى المرتحلين ، واللامبالين ، والعابثين بِالْإِقَامَة ، والممسوسين ، والموتى ، مَن كَان سيكتشف جَمَال الْعُبُور ؟
وأيّةُ لَحْظَة تكتشف الحياةَ أَكْثَرَ مِنْ لَحْظَة الْغُيَّاب عَنْهَا ؟
هَلْ لِذَلِكَ تَجِب مصادقةُ الرَّحِيل أَكْثَرَ مِنْ مُصَادَقَة الْإِقَامَة ؟
وَهَل ، لِذَلِك ، عَلَى حَيَاتِنَا أَنْ تَكُونَ ، فَقَط ، تمرينًا عَلَى جَمَال الرَّحِيل ؟
أجملنا المنتحرون . الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا شيئًا وَلَم يَسْتَأْثِر بِهِم شَيْءٌ . الَّذِين خطوا خطوةً وَاحِدَةٍ فِي النَّهْرِ كَانَتْ كَافِيَةً لاكتشاف الْمِيَاه .
أجملنا الَّذِينَ لَيْسُوا بَيْنَنَا . الَّذِين غادرونا خَفِيفَيْن ، تَارِكِين ، بتواضع ، مَقَاعِدَهُم لِنَاس قَدْ يَأْتُونَ الْآن ، إلَى هَذِهِ الحَفْلَة .
حفلةٌ سخيفة ، وَرَغَم ذَلِكَ لَا يُتْرَكُ المتشبثون بِالْإِقَامَة مقعدًا !
لَكِن لِمَ الْمَقَاعِد ، مَا دَامَ المحتفلون يَبْدَءُون ضيوفًا وينتهون أَعْدَاء ؟
حفلةٌ سخيفة ، وَرَغَم ذَلِكَ لَا يُتْرَكُ المتشبثون بِالْإِقَامَة مقعدًا !
لَكِن لِمَ الْمَقَاعِد ، مَا دَامَ المحتفلون يَبْدَءُون ضيوفًا وينتهون أَعْدَاء ؟
لنمضِ إذْن ، بخفَّة ، قَبْلَ أَنْ تلتهمنا الْخَنَاجِر ، قَبْلَ أَنْ نُصَيْر طبَقَ الْوَلِيمَة .
لحظةُ الْوُصُولِ إلَى الِاحْتِفَال هِي كلُّ جَمَال الِاحْتِفَال . وَبَعْدَهَا ، سريعًا ، يَصِير الجمالُ هُو المغادَرة .
الْخُطْوَة المغادِرة ، هِي الأجمل دائمًا .
الراحلون يمتزجون بالنسيم . وَإِذ نَقِف نَحْن ، لتشييعهم ، فلنشيّعْ مَعَهُم ذكراهم أيضًا . لِأَنّ الذِّكْرَى تعيق رَحِيلُهُم ، تعيدهم إلَى مَكَانِهِم ، تجعلهم جمادًا .
الذَّاكِرَة تعيق الرَّاغِبِينَ فِي الْمَوْتِ . وَتُجْعَل الرَّاغِبِينَ فِي الْحَيَاةِ مَوْتَى .
فلندفنها إذْن.
لندفن الذَّاكِرَة وَنَحْن نغنّي .
أَنَّهَا حَفْلَةٌ سخيفة فِي آيَةِ حَالٍ ، وَلَكِنْ بِمَا أَنَّنَا وَصَّلْنَا ، فلنغنِّ ونرقص .
ثوانٍ ، قَد نَكُونُ فِيهَا جميلين .
لَكِن أجملنا سَيَبْقَى : الْغَائِب . )
جمال العابر
إلقاء : زينب حسن
https://soundcloud.com/fos7a/pl3imv4bgcin
الْخُطْوَة المغادِرة ، هِي الأجمل دائمًا .
الراحلون يمتزجون بالنسيم . وَإِذ نَقِف نَحْن ، لتشييعهم ، فلنشيّعْ مَعَهُم ذكراهم أيضًا . لِأَنّ الذِّكْرَى تعيق رَحِيلُهُم ، تعيدهم إلَى مَكَانِهِم ، تجعلهم جمادًا .
الذَّاكِرَة تعيق الرَّاغِبِينَ فِي الْمَوْتِ . وَتُجْعَل الرَّاغِبِينَ فِي الْحَيَاةِ مَوْتَى .
فلندفنها إذْن.
لندفن الذَّاكِرَة وَنَحْن نغنّي .
أَنَّهَا حَفْلَةٌ سخيفة فِي آيَةِ حَالٍ ، وَلَكِنْ بِمَا أَنَّنَا وَصَّلْنَا ، فلنغنِّ ونرقص .
ثوانٍ ، قَد نَكُونُ فِيهَا جميلين .
لَكِن أجملنا سَيَبْقَى : الْغَائِب . )
جمال العابر
إلقاء : زينب حسن
https://soundcloud.com/fos7a/pl3imv4bgcin
Comments
Post a Comment